أوقات الحسم أوقات مصيرية فاصلة، لا تعرف الألوان الرمادية، ولا التلكؤ والتماطل والتلاعب والازدواجية، وعلى قطر أن تعي هذا جيداً، وأن تتعامل بجدية وعقلانية، وأن تفيق من سباتها، فالأمر جد لا هزل، والواقع خير شاهد على ذلك.
إن التراجع عن الخطأ فضيلة، والتمادي فيه رذيلة، كما قال العلماء والحكماء، ولكن لا ندري هل بقي لقطر عقل وحكمة؟! فالطريق واضح، والاختيار ممكن، والمطالب سهلة التنفيذ، وعادلة في مضامينها، بل هي مطالب ضرورية لا تخفى أهميتها في حماية الأمن الإقليمي والعالمي، ومع ذلك نجد قطر تستكبر عن تنفيذها، وتصر على غيها، وكأنها فقدت عقلها.
إذا كانت قطر تراهن على الوقت فهي تحلم بكل تأكيد، فالمماطلة تضرها، والقطار قد مضى ولن يتوقف أبدا، لن يتوقف إلا عند محطة واحدة فقط، محطة التراجع والتصحيح، وما عدا ذلك فلتنتظر قطر ما شاءت، ولتزد من أعبائها كما تحب، وعلى نفسها جنت براقش، وإذا كانت قطر تراهن على قوى خارجية تلجأ إليها فتلك مغامرة أخرى، فهذه القوى لن تغني عنها شيئا، ولها مصالحها الخاصة، وستتخلى عنها عند أدنى مفترق طرق، وإذا كانت تراهن على التأثير على الرأي العام واستجداء العواطف ورفع شعارات المظلومية فإنها تضر بذلك نفسها ضرراً بالغاً، لأن هذا التصعيد الدبلوماسي والإعلامي من جهتها سيؤدي إلى فتح مزيد من ملفاتها، وتسليط مزيد من الضوء عليها وعلى دعمها وتمويلها للإرهاب، وقد يُدخلها ذلك في دوامات على الصعيد الدولي، وإدانات لن تخرج منها، فتدويل المشكلة يلقيها في هاوية سحيقة.
المخرج الحقيقي الذي ينبغي لقطر أن تفكر فيه هو العودة الجادة إلى البيت الخليجي، وإذا ما استجابت للمطالب بحق وصدق ومن دون تلاعب ولا تقية ولا خداع فستجد الأيادي ممدودة والأحضان مفتوحة، وما عدا ذلك فهي الخاسرة، وستتخبط في ظلام دامس، وتهوي في نفق مظلم لن تخرج منه.
المؤشرات لهذه الساعة سلبية، وقطر تخوض مغامرة بل مقامرة غير محسوبة العواقب، وهي تُغرق نفسها بيدها بدلاً من أن تتمسك بطوق النجاة، فعوضاً عن التراجع تتمادى في غيها، وتحاول قلب الحقائق وتزويرها، وتسعى عبر محاولات فاشلة للتأثير على الرأي العام، فتسمي المقاطعة حصاراً، مع أن هذا الحصار المزعوم لا وجود له، والمقاطعة حق سيادي لهذه الدول لحماية نفسها وأمنها من شرور قطر، كما تسمي المطالبة بإغلاق قنوات الفتنة والإرهاب تعدياً على حرية التعبير، وهي الحجة نفسها التي يمكن للإعلام “الداعشي” أن يستخدمها، والجواب واضح، ومن يدافع عن قنوات إرهابية فهو يدافع عن حرية إرهاب وليس حرية تعبير، وتسمي المطالبة بإيقاف إيواء الإرهابيين واحتضان الحرس الثوري الإيراني وإيقاف دعم وتمويل الإرهاب ودعم تنظيماته كالإخوان وحماس وحزب الله وفتح الشام (النصرة سابقاً) و”داعش” تعدياً على سيادتها وتدخلاً في شؤونها الداخلية، وهذا فهم مغلوط للسيادة، مخالف لجميع القوانين والأعراف الدولية التي تجرم الإرهاب بكافة أشكاله وصوره، والحجة التي تستند إليها قطر يمكن أن يستند إليها البغدادي نفسه زعيم داعش، ويمكن أن يستند إليها أي كيان إرهابي، ومع تباكي قطر على سيادتها نجد أنها تستقدم قوات إيرانية وتركية إلى أراضيها، فهل استقدام هؤلاء لا ينافي سيادتها والمطالبة بوقف دعمها للإرهاب ينافي سيادتها؟! وتدعي قطر أنه ليس هناك أدلة على مؤامراتها وجناياتها، متبعة سياسة التجاهل والتغابي، مع أن أدنى عاقل يمكنه الاطلاع على تسجيلات صوتية موثقة منشورة لزعماء قطر تكشف بكل وضوح عن مؤامراتهم الدنيئة ضد دول الخليج، واعترافات منشورة لضباط قطريين، وأكوام من الأدلة المتراكمة التي تكشف مؤامرات قطر، وهذه كلها قطرة في بحر الأدلة التي تدينها، فما خفي أعظم، فهل هذه الأدلة الواضحة القاطعة أوهام؟!!
حاولت قطر في الأيام السابقة التلاعب باستخدام سياسة التجاهل وإغلاق الآذان ووضع الرؤوس في التراب، فزعمت أنها لا تعرف أسباب المقاطعة، بالرغم من أن البيانات الرسمية للدول المقاطِعة كانت واضحة منذ اليوم الأول وضوح الشمس، ومشتملة على أسباب معلنة وصريحة للمقاطعة، وعلى الرغم من ذلك تم إعداد قائمة بالمطالب من هذه الدول وتسليمها إلى قطر، وعندما استلمت قطر هذه المطالب قابلتها بتصرف صبياني ينمُّ عن طيش وعدم مسؤولية، فسربت المطالب إلى الإعلام، بهدف التشويش عليها، وألمحت إلى رفضها على لسان وزير خارجيتها، لتنتهي المهلة المحددة دون أي استجابة عاقلة من قطر.
كما تستمر قنواتها قنوات الفتنة والإرهاب في نشر الأكاذيب والزيف والتحريض وقلب الحقائق، متجاهلة أن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال، وأن صوت الحقيقة يعلو على صوت الزيف والخداع، وأن زمن قناة الجزيرة ولَّى بلا رجعة، والصراخ إنما يعكس قدر الألم، وهو لا يعالج المرض، بل يزيده قيحاً وسقماً، والأولى بقطر أن تعالج نفسها، قبل أن يستفحل مرضها ولا ينفع معه إلا البتر.
نأمل أن تراجع قطر عقلها، وتعود إلى رشدها، وتصحح مسارها، لأن ذلك خير لها قبل أن يكون خيراً لجيرانها، وما هو مطلوب منها ليس معجزات، بل مطالب مشروعة ممكنة لا ينبغي لعاقل أن يتردد في تلبيتها، وأما إذا استمرت قطر في الغي والبغي فلتوقن بأنها تتجه نحو انتحار سياسي واقتصادي، فهل تعقل قطر ذلك؟!