التفت المحامي الفرنسي الشاب جورج جاك دانتون يمينا ويسارا فرأى أصدقاء الأمس يحوطونه من كل جانب، لم يكن هذا كافيا لبث الطمأنينة في نفسه، مد النظر إلى خارج العربة فعرف الطريق، إنه شارع سانت أونور المؤدي إلى ساحة الكونكورد، وسط باريس التي شهدت ولادة الثورة، ونصبت فيها أيضا مقصلة الإعدام.
.. الوجوه نفسها والمكان ذاته. بالأمس كان هنا بطل وواحد من دعاة نبذ الظلم والفساد، واليوم يقوده الأصدقاء أنفسهم الذين شاركوه المسيرة والكفاح والحلم إلى حتفه. يا للقدر.
.. تقدم جورج جاك إلى مقصلة الإعدام، التي سميت لاحقا باسم صديقه السابق “ماكسيمليان روبيسبير”، زعيم ما عرف بـ “الإرهاب الثوري”، كان أحد أصدقاء الاثنين السابقين في فريق “لجنة الأمن العام”، يتلو بيان إعدام جاك، حين قرأ: “.. وتحوله عن أساسيات الثورة، إلى سياسة الرحمة والرأفة والتسامح مع أعداء الثورة …”، ابتسم دانتون وصديقه السابق مستمر في تلاوة التهم وهمس في مجاوره: دعونا نترك شيئا لذبح الآراء، بدلا من البشر”.
المشهد مهيب، والخطب جلل، رجل يزفه أصدقاؤه إلى حتفه، وهل من شيء أمر وأدهى، إلا أنه أيضا في المكان ذاته الذي وضعوا فيه أساس حلمهم الكبير. لم تسقط عن عيني دانتون دمعة واحدة، تنفس بعمق كأنما يزفر أي شيء له علاقة بالماضي، وقال عبارته الشهيرة التي خلدها التاريخ وما تزال الألسن ترددها حتى اللحظة: “الثورة تأكل أبناءها”.
.. الحماسة المتفجرة وإقصاء الآخر عند الاختلاف حولت شباب الثورة الفرنسية إلى انتقاميين وإقصائيين وسفاكي دماء بمحاكم صورية، لم تأخذهم الرحمة والشفقة في صديق أو زميل أو رفيق مرحلة، فوقعوا في أخطاء جسيمة كانت سببا في استشراء التصفيات الجسدية بينهم وتشويه الثورة، ولم يكن إعدام واحد من أهم أضلاعها –دانتون- إلا حلقة في المسلسل الطويل، ولذلك كانت عبارة جاك التاريخية وصفا مثاليا للمشهد.
مع فوارق الموضوع والتاريخ والحدث والتشبيه، إلا أني أرى في الإعلام الرياضي لدينا بعض التقاطعات مع تلك القصة الحزينة للمحامي الشاب الذي ودع الثورة والأحلام ومهنته التي أحبها، وأعدم على أيدي الرفاق وهو ابن الـ 36 عاما فقط.
التجاذبات الحادة بين زملائي أبناء المهنة الواحدة -الإعلام الرياضي- في وسائل التواصل الاجتماعي تجاوزت الحدود الموضوعية إلى الشتائم والقذف، والمؤامرات والحسابات الشخصية. وإني لأعجب من زملاء مهنة واحدة من الأجدر أن ينتصروا لها أصبحوا يحتشدون خلف معسكرات أخرى يحكمها اللون فقط وتركوا لونهم الموحد. إني لأعجب من زملاء مهنة واحدة يحتفلون بإيقاف زميل لهم، وآخرون يردون الاحتفال بالشماتة في زميل آخر صدر بحقه حكم قضائي. أي زملاء هؤلاء وأية زمالة وأدبيات مهنة تحكمهم.
أمام كل هذا العبث، والتقاذف المستمر من الزملاء لبعضهم، لا حل إلا أن يضطلع أصحاب القرار في المؤسسات الإعلامية بمسؤولياتهم الحقيقية، ويلفظون دعاة الإرهاب الفكري في الإعلام الرياضي. لنختلف .. ونتناقش، ونتحاور وتعلو أصواتنا ونختلف أيضا، لكن أي نقاش حتى يكون حضاريا فإن نتيجته النهائية لا تخرج عن ثلاثة مسارات: إما أن تقنعني وأعتذر لك، أو أن أقنعك وتعتذر لي، وإما أن يتمسك كل منا برأيه ولا نفقد الاحترام فيما بيننا. أما تحويل كل الآراء الخاصة التي لا تعجبنا إلى قائمة من الاتهامات، يتم فيها إقصاء الآخر وتصفيته فكريا، فنحن نسير على درب دانتون ورفاقه وسنردد قريبا: الرياضة تأكل أبناءها.
مقالة للكاتب بتال القوس عن جريدة الاقتصادية