رقيم ودهاق أوطاننا العربية «يا شام عاد الصيف» (1-3)

حنانيك يا سورية.. تبَصَّرك التاريخ فجثا على ركبتيه، استنهض أمجاد فجرك على صوت النواعير وظلال القلاع

 

أساطير الأسفار والأقطار اختطت وخطت لها أثرًا شاميًا. ضريح «الجندي المجهول» و»جبل قاسيون» شاهدان على «إخوة التراب» وهم يتبادلون على «الحدود» رسائل «غادة السمان» وقصائد فرات أسعد وبدوي الجبل وأبوريشة وأدونيس والماغوط. لم يكونوا قاسين يا قاسيون على أقواس شفاهم نبتت زهرة انداحت شأبيبها وسقوها من أنسام وعرق أجسادهم المسحوحة المغدقة فتورقت كروم شامهم ونبتت:

«سلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ

ودَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ»

هل توصف الجنة لمن لم يراها؟! كيف نصُغْ ونصغِ لذاكرة التاريخ بعد أن تشربت عهود ما قبل التاريخ والحضارات السامية القديمة, وها هي تنهدل وتتسلل كضوء خافت عبر مغارات الأزمنة «الضوايات».. اشهقي بين أصابع اليد لقبل 20 مليون سنة، وأقبلي نحو دمشق وقبليها على الجبين تسعًا وتسعين قبلة وقبلة لعاصمة المحبة, رائعة الخلود, طفلة الغدران والجداول, سلام على تدمر وعتبات حصونها والقلاع, سلام على حلب الشهباء وحمص العذية, وألف سلام يا حماة واللاذقية ويا أذرعات كلما رف شجن ذلك الأعرابي يوم عبر (يا ليت درعا بين زلوم وصوير), وسلام على ضريح نزار وشعره:

فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا

فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا

حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنيةٍ

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

أنت النساء جميعاً ما من امرأةٍ

أحببتُ بعدك إلا خلتها كذبا

يا شام إنّ جراحي لا ضفاف لها

فمسّحي عن جبيني الحزن والتعبا

وأرجعيني إلى أسوار مدرستي

وأرجعي الحبرَ والطبشورَ والكُتُبا

قُرّاء «الثقافية» أنتم معنا في سورية حيث للتاريخ أصوات تتكلم، سنقلب ونقبل كل ركز من أتبارها لتتكلم.. صه سورية بدأت تتحدث..

حين يريد الباحث أن يقف على الحركة الأدبية أو الثقافية أو النقدية في سورية في العصر الحديث عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الإرهاصات الزمانية الماضية، وذلك من خلال الوقوف على بعض الظواهر الأدبية والفكرية التي برزت في المنطقة والتي كانت تشمل بلاد الشام في العصور السالفة. أستاذ النقد الأدبي في جامعة الغرير الدكتور أحمد عقيلي كشف أن الدراسات التاريخية أثبتت أن الامتداد الزماني التاريخي لسورية الذي يقدّر بآلاف السنين شهد أنواعاً متعددة من الأدب، وهو ما تجلى في أساطير وأسفار تأملية مرتبطة بأصل الإنسان وبداية الخلق وظهور البشرية وطوفان نوح عليه السلام، وهو الأمر الذي أثبتته دراسة المؤرخين وعلماء الآثار للقى الأثرية التي وجدت في «ماري وإيبلا»، وقد ذكر فيها اسم الكاتب السوري صاحب الأسلوب التهكمي الساخر (لوقيانوس). ولا يمكن أن نغفل حقيقة مهمة، هي أن أول أبجدية في العالم قد ظهرت في هذه المنطقة، علاوة على أنها احتوت اللغة الآرامية، وهي برأي المؤرخين أقدم اللغات، إضافة إلى الأساطير والقصص والأشعار المختلفة التي أميط عنها اللثام في الدراسات التاريخية الحديثة، نذكر منها: أسطورة دونيزيوس، وأسطورة جيو وتعاقب الفصول.

قبلة الحضارات والعلماء والأدباء والمفكرين

وأضاف: لم تكن الأساطير وحدها المكتشفة، بل وجدت آثار ودلائل واضحة ومهمة على وجود الحركة الشعرية والمسرحية، وذلك من خلال المسارح والمدرجات التي كانت في معظم القلاع والحصون، والتي نذكر منها مدرج بصرى الشام ومدرجات تدمر. هذا في العصور القديمة وما قبل الإسلام، ولو انتقلنا إلى المراحل اللاحقة لوجدنا مراحل أخرى، منها ظهور الدولة الأموية وامتدادها وسيادتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والفكرية والأدبية، وهو ما انعكس بشكل واضح ومباشر في الواقع الاجتماعي السوري كون دمشق عاصمة للدولة الأموية، حيث أصبحت مركزاً حضارياً وثقافياً مهماً، يقصده المفكرون والعلماء والأدباء والشعراء، والمؤرخون، فازدهرت الحركة الشعرية، وظهر كوكبة من الشعراء المبدعين الذين خلدهم التاريخ، نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر: جرير والفرزدق والأخطل. ولو انتقلنا إلى العصر العباسي لوجدنا عدداً من المفكرين والأدباء والشعراء الذين ينتمون إلى سورية التي كان يطلق عليها آنذاك اسم الشام، وكان لهم دور مهم ومحوري في الحركة الثقافية والإبداعية على الساحة العربية، لعلنا نذكر منهم: أبا تمام، البحتري، ديك الجن الحمصي، أبا العلاء المعري، أبا فراس الحمداني، الصنوبري، والوأواء الدمشقي. وقد شكّل هؤلاء ومن بعدهم ما يسمى المذهب الشامي في الشعر، وهو ما خلق جواً ثقافياً وفكرياً وأدبياً مناسباً لاستمرار الحركة الشعرية وتطورها.

الحركة الأدبية والشّعرية وانعطافاتها عبر الزمن

وحول الحركة الشعرية وانتقالها يقول الباحث والكاتب وليد الحراكي: لو نظرنا بإمعان إلى سورية والحركة الفكريّة التي وصلت إلينا سنرى أن معظمها ينتقل عبر رواية الشّعر التي كان الشّاعر فيها يبوح بما في داخله من مشاعر وأحاسيس، ينقلها لمن يريد، ويوظّفها حسب حاجته. فقد أثبتت الدّراسات أنّ أقدم مخطوطة للشّاعر (ميليا غروس) تحت عنوان (الإكليل)، وتضم 134 قصيدة من أروع قصائد تلك الحقبة؛ وهذا يدلنا على مدى أهميّة الشّعر والبوح في حياة كل إنسان الذي أخذ يُعمل العقل بتطوير تلك الملكات عبر مسيرته الشعريّة والأدبيّة.

ولا ننسى الأشعار الرائعة التي وصلت إلينا في فترات متباعدة ومتقاربة، والتي كانت أصدق ما كتبه إنسان عن تلك المرحلة، خاصّة في بلدنا سورية، أمثال ابن حجّة الحموي (1433م) إمام أهل الأدب في عصره، واسم (ست الشام) أخت صلاح الدين الأيوبي، وظهر اسم عائشة الباعونية (1460-1516) وقصيدتها (الفتح المبين في مدح النبي الأمين) التي شرحها ابن الحموي. وتجدر الإشارة إلى أنّه ظهرت التجمّعات الأدبيّة للشّعراء في مجالس كبار القوم والخلفاء فكان كلّ خليفة يجمع حوله الشّعراء والأدباء ورجالات الدين والفكر واللّغة والعلوم أمثال عبد الملك بن مروان. وكانت تلك المجالس مصدرًا غنيًّا للتّعريف بحال تلك الحقبة على لسان الشعراء فيها أمثال أبي تمام والبحتري والمعري والطرماح، وبرز اسم الشاعرة أم حكيم الأمويّة؛ ليدلّنا على أن المرأة كانت ذات فكر وثقافة وأدب في المجتمع السّوري بشكل خاص، والشّامي بشكل عام. وبقي للشّعر وللكلمة جمالها الخاص. ومع توسّع رقعة البلاد واختلاط الشعوب واللّغات بدأت تظهر بعض التغيّرات في لغة الشّعر والأدب، وتوسّع أفق الأدباء وتفكيرهم، ونضج خيالهم، وازدادت موضوعاتهم الفكريّة وفنونهم اللّغوية والشّعريّة.

كما برزت أسماء صالونات أدبيّة في سورية مثل صالون الأديبة الحلبية (ماريانا مراش الحلبية 1848-1919م), ولمع اسم أمين الجندي من مدينة حمص (1766-1841)، واسم بدر الدين الحامد شاعر العاصي من مدينة حماة (1897-1961)، لكن نتيجة الظروف السياسية في تلك الفترة والمجاعات أخذت التجمّعات الأدبية تعقد في المقاهي مثل مقهى (الهافانا) في دمشق (1945م).

الشوق للأوطان وهجر الخلان

لقد تغنى الشعراء بالشوق للأوطان، وأبدعوا في عشق الأحبّة وهجر الخلّان، فجاءت أروع الموشّحات والأشعار بلغة سلسة قريبة من الوجدان، وبدأ التحرر من القيود والظّلم وعشق الحريّة واضحًا في جرأة الطّرح لدى البعض بتكوين مجموعات صغيرة للمّ شمل تلك العقول، ووضعها في الإطار الصحيح من أجل تحقيق هدف أسمى، تسعى للحصول عليه، هو إثبات الذّات المقهورة المنبوذة ومدى الإمكانيات الحقيقيّة للفرد عندما يملك الحريّة, فظهرت أمثال (الرابطة القلميّة) في أمريكا التي أسّسها الأديب السوري عبد المسيح حدّاد. ولا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يسمع بعبدالرحمن الكواكبي وجمعية العاديات (1855 – 1902).

الشعر السوري مراحل واتجاهات

المجتمع السوري يعد مجتمعًا مهتمًّا بالثقافة والأدب، حتى أكاد أقول إنه ليس من سوري لا ينطق شعرًا، درج على ذلك الريفي في مجمل حياته لاتصال الشعر والغناء ببنيته ونمط حياته، والمدني الذي نحا نحو الأدب لتكوينه الراغب بالثقافة والدراسة. هذا ما يقوله الشاعر فايز العباس. ويقول أيضًا إنه مع بروز حركة النضال ضد الاستعمار أدى ذلك لبروز التجارب الشعرية التي كانت تواكب حركة التطور للمجتمع السوري. أستطيع أن أسمي هذه المرحلة الممتدة تقريبًا من 1880 حتى 1950 بمرحلة الرصانة الشعرية. والرصانة أقصد بها الموقف الشخصي للشعراء، وطريقتهم في تناول اللغة؛ إذ إن الكلاسيكية كانت في أوجها. وأهم ما يميز هذه المرحلة تداخل السياسي بالوجداني.

وقد برز في هذه المرحلة عدد كبير من الشعراء والأدباء، أمثال فخري البارودي وشفيق جبري وعمر بهاء الدين الأميري وبدوي الجبل وماري عجمي وعمر أبو ريشة وآخرين. إن شعراء هذه الفترة اتسموا بالنضال على الصعيدَين السياسي والاجتماعي، وبرزوا كفئة تنويرية إلى حد بعيد.

ومن هذه التجارب التي تعتبر نقطة وعلامة في الشعر السوري أذكر الشاعر وصفي القرنفلي (1911 – 1972)، وهو شاعر تقدمي رومانسي النزعة، يميل في شعره إلى البوهيمية، وصاحب مدرسة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وظّف قصائده لخدمة قضايا الوطن والإنسان، ومحاربة الاستعمار، والدفاع عن الفقراء والكادحين. ألفاظه منتقاة، ولقّب بشاعر حمص:

«لنا النصر يا أختُ فاستبشري

ألم يتضح الصبح للمـبصر؟

جـحافلنا تملأ الخافـقين

طــلائع، للجـحفل الأكـبر

سنبني الحياة، فمن ناضرٍ

كدرب الربيع، إلى أنضر».

ولا يفوتني التذكير بأن الشاعر سليمان عواد (1924 -1984) يعتبر من أوائل الداعين للثورة على النص التقليدي بخليليته، والاتجاه نحو روح النثر المتحررة، مما تسبّب باتهامه ومن تحمّلوا عبء الشغل بقصيدة النثر بالدعوة لهدم الإرث والتغريب بالشعر العربي نحو الترجمة، والجدل ظلّ مستمرًّا، وأزعم أننا لم ننته منه حتى يومنا الراهن.

أما عن مرحلة شعراء الجدل والتجديد والارتكاز القائمة على استحضار الرموز التاريخية فكشف «العباس»: إن هذه المرحلة تصدرت المشهد الثقافي عمومًا والشعري خصوصًا أسماء كان لها الأثر الكبير في التأصيل لحالات شعرية حداثية، تجارب قامت على المغاير، وعلى الرهان على ضخ الروح الجديدة في القصيدة العربية السورية. هذه الأسماء الإشكالية التي حفرت عميقًا في البنية الشعرية على مستوى الشكل البنيوي واللغوي، وعلى مستوى الفكرة وجرأة الطرح. وأهم الأسماء هي أدونيس، محمد الماغوط، رياض صالح الحسين، ونزار قباني.. وحين نقف على مجموعة من المدارس الجديدة التي تسمّت بأسماء أصحابها كأن نقول: نزارية، بركاتية، أدونيسية، ماغوطية.

العنونة والدرامية الشعرية

وأوضح العباس أن مرحلة العناوين الشعرية امتدت من أواخر السبعينيات في القرن الماضي حتى الراهن، ويتضح من العنوان الذي اتخذتُه لهذه المرحلة أن ما يميز التجارب الشعرية كثرة الإصدارات، تلك التي اعتمدت بشكل أساسي على العتبة النصية للعناوين، سواء للنصوص أو للمجموعات الشعرية الصادرة. أما من حيث التقنية لدى شعراء هذه المرحلة فتبرز النمذجة الفنية، حيث يُعدّ – كما يقول د. سعد الدين كليب – النموذج الفني من أهم الأساليب التقنية التي استخدمها شعر الحداثة العربية في تعبيره عن وعيه الجمالي الذي يتصف بالدرامية من جهة، وفي تعبيره عن الواقع الإنساني من جهة أخرى.

ومن قصيدة «تراتيل غير مقدسة» لسعد الدين كليب:

«لا تكن صلبا فتكسرْ»

قالها جدي.. وأغفى في الظهيرهْ

كان مكسوراً.. على أبواب مخفرْ

لم أكن صلبا ولكنّي انكسرت.

الرواية السوريّة بين الأمس واليوم

يرى الروائي محمد فتحي المقداد أننا لا نستطيع الفصل في دراسة واقع الرواية السوريّة عن المحيط الإقليمي والعربيّ، وذلك من خلال المؤثرات على الحياة بشكل عام، فكثيرًا ما انعكس هذا على أداء الأعمال الروائيّة السوريّة، بدءًا من بداية القرن العشرين حتى يومنا.

مضيفًا: إن رواية «مفترق المطر» للروائي (يوسف المحمود) تعتبر من الروايات التعليميّة، وهي المُؤسِّسَة للرواية السوريّة، وتتحدّث عن بيئة الساحل الفقيرة أو المُعدَمة. كما أن الأعمال الروائية السوريّة على مختلف توجّهاتها وانتماءاتها الفكريّة والعقائديّة جاءت جزءًا لا يتجزّأ من الأدب العربي عامة، خاصة في معالجة قضية محاربة الاستعمار والقضيّة الفلسطينيّة والاشتراكية وقوانين التأميم والإصلاح الزراعي والانقلابات العسكريّة والحراك الاجتماعيّ وقضايا الفقر والأميّة ومحاربة الجهل، والثورة على الظلم والإرهاب والربيع العربي.

وتابع: واكبت الرواية السورية التطوّر المجتمعي والفكري الثقافي والسياسي والاقتصادي، فانطلقت من عقال الاتّكاء على التاريخ الذي كان بداية المدخل للفنّ الروائيّ بشكل عام، والنهل من الحياة الريفيّة؛ فكانت مادة دسمة في فترة التحديث، وما أطلقت عليه الأنظمة السياسية آنذاك (ثورة)، والصراع الطبقيّ. فتميزت روايات هذه الفترة بمعالجة الحالة والغوص فيها، وكان خطابها الأيديولوجي بالصبغة القومية هو السمة الظاهرة لروايات تلك المرحلة المتلفّعة بغطاء اللغة والصنعة اللغويّة، التي غطّت على بساطة الحياة في الأرياف. وفي السنوات الأخيرة تأثرت الكتابات الروائيّة بعصر العولمة وثورة الاتصالات؛ فتجاوزت الحدود وتأثير الأحزاب القوميّة التي عانت من انحسار مدّها الفكري وضعف أدواتها.

وجاءت المحاولات الأولى للرواية العربية على يد (سليم البستاني 1848 – 1884)، أحد كتّاب مجلّة الجنان اللبنانيّة، وقد اتّسمت روايات ذلك الجيل بالسرد التاريخيّ العشوائي الذي لا يخضع لقوانين الفنّ، وانضمّ لهذا الجيل (يعقوب صرّوف) مؤسس مجلة المقتطف.

وزاد: إن الشعب السوريّ بجميع فئاته هبّ لمقاومة المحتلّين بشتى الوسائل، وكان للرواية السوريّة الإسهام المباشر على يد أحد أعلامها وروّادها (فارس زرزور). في العام 1962 كتب بحثًا تاريخيًّا بعنوان «معارك الحريّة في سورية»، ومن ثمّ أتبعه بثلاثيّته «حسن جبل، و«لن تسقط المدينة»، و«كل ما يحترق يلتهب». واستطاع في أعماله تلك إعادة تدوير المادة التاريخيّة إلى أعمال روائيّة، استطاعت تسليط الضوء على المقاومة الصلبة ضد الفرنسيين، وفضح جرائمهم بواقعيّة سرديّة مُتقنَة، أوصلت رسالتها بِيُسرٍ وسهولة. أما رائعة الروائي (حنّه مينه) «المصابيح الزرق» فقد عالج من خلالها الفقر والعَوَز في مجتمع الساحل السوري خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وأبرز دور المقاومة، وأعلى من شأنها.

الريف والمدينة ورواية الحب السورية

وأوضح «المقداد» أنه في تطوّر لاحق انتقلت الرواية إلى عالم أرحب وأوسع، حيث اتّخذت من الإنسان مادّتها، ورسمت الحياة الاجتماعية بكلّ تفاصيلها ما بين الريف والمدينة، وطبيعة العلاقات الناظمة للمشهد, وجاءت من خلال روايات (عبدالسلام العجيلي) بنقلتها النوعيّة في رصد الحياة الفراتيّة من مدينته الرّقة، الذي أخرجها من عالم النسيان إلى المشهد الثقافي في أعماله العديدة (عيادة في الريف – وباسمة بين الدموع)، وفي (أزاهير تشرين المدماة) قصة حبّ من الريف انتهت بموت البطل في حرب تشرين 1973 في الدّفاع عن الوطن.

أما رواية «ملكوت البُسطاء» للروائي (خيري الذهبي) فقد استمدّت أحداثها من الحياة الاجتماعية في دمشق في فترة قديمة (الخمسينيات من القرن الماضي)، فكانت سجّلًا شاهدًا توثيقيًّا على ما قبل التطوّر التقني والتكنولوجي. كما أن رواية «مصرع ألماس» للروائي (ياسين رفاعيّة) جاءت ملحمة أسطوريّة واقعيّة عبقة بالحبّ المكتوم والجنس والجريمة، والصراعات الاجتماعية اليد الطُّولى فيها للأقوى الذي يبطش بالآخرين، فيخضعون لإرادته خوفًا من الانتقام والثأر.

واختتم «المقداد»: في الآونة الأخيرة انطلقت الرواية السوريّة من عقالها المحليّ إلى رحاب العالم المعاصر الأوسع والأشمل، وتقديمه بعاداته وتقاليده وفنونه ولهجاته المتعدّدة، وبرزت أسماء مُهمّة، أظهرت صوتها عاليًا، وكرّست رؤيتها بوضوح في رسم المشهد الروائي الجديد والحديث في سورية، أمثال «خيري الذهبي» و»فواز حداد» في دمشق، و»هيفاء بيطار» في اللاذقية، و»إبراهيم الخليل» في الرقة، و»فيصل خرتش» في حلب، و«ممدوح عزام» في السويداء، مع التحفّظ على البيئة التي يرصدها، و»محمد الحفري» و«علي أحمد العبدالله» من درعا. فهذا الجيل أبدع أعمالًا روائيّة، أضاءت فترة الأيديولوجيّة القوميّة، مُتمازجة في الوقت نفسه مع منابتهم وأصولهم الريفيّة و المدينيّة.

الناقد الدكتور أحمد عقيلي بدوره شدد على أن الرواية في سورية استطاعت أن تولد ولادة ناضجة، وأن تثبت حضورها القوي، وهو ما أقرته كثير من الدراسات النقدية؛ إذ نجد رواية: غابة الحق للكاتب فرنسيس المراش، التي صدرت عام 1865م؛ لتتصاعد وتيرتها الإبداعية؛ ففي عقد الخمسينيات من القرن العشرين تطورت الرواية السورية تطوراً لافتاً، وأضحت جزءاً رئيسياً ومحورياً أسهم بقوة في تطوير الحركة الأدبية السورية؛ إذ تزايد عدد الروايات؛ ليصل إلى ما يزيد على ستمائة رواية، بل إن كبار النقاد اعتبروا رواية «نهم» للكاتب شكيب الجابري التي أعلن ولادتها عام 1937 الرواية الأكثر قرباً من الأسس الفنية للرواية الناجحة.

وأضاف: ولو وقفنا على الحركة الروائية في سورية لوجدنا التنوع في الموضوعات والقضايا التي تناولها الكتاب، وهو نتيجة للتماهي مع الواقع والظروف المعيشة، فكانت الرواية الاجتماعية الواقعية، والرواية الوجدانية العاطفية، والرواية التي تعالج إرهاصات الاستعمار والاضطرابات في المنطقة إبّان الحرب العالمية الثانية؛ فكانت الموضوعات التي قدموها في رواياتهم مرايا تعكس وجهات نظرهم ومواقفهم، وهي في مجملها تتسم بالعمق والموضوعية من جهة، والجرأة والصدق الفني من جهة أخرى، إضافة إلى كون النزوع الواقعي هو الأبرز حضوراً في معظمها.

مشيرًا إلى أن الرواية السورية استطاعت أن تقدم لوحة فنية تاريخية متكاملة لحركة المجتمع السوري وصراعاته المختلفة على شتى الأصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية، وما نجم عنها من تبدلات وتحولات متلاحقة. كما لم تقف الرواية السورية عند هذا الحد، بل راحت تتطور في بنيتها الفنية وفي طريقة البناء؛ وذلك نتيجة احتكاكها بالنماذج الروائية العالمية؛ فظهر ما يسمى بالرواية المفتوحة، أو متعددة الدلالات.

ملامح القصة في سورية

القصة جنسٌ من الأجناس الأدبية العربية، وإن كان قد سبقها الشعر؛ إذ إن الشعر هو ديوان العرب، وباعتبار أن العربَ تعرّفوا على القصّ من خلال قصص القرآن الكريم فقد تعلّقوا بهذا الجنس الأدبي؛ وهو ما أدى لظهور حركة القصّ في سورية وبقية الأقطار العربية. القاص خليل النابلسي أكد ظهور بذور القصة في سورية في الثلث الأول من القرن العشرين، مشيرًا إلى ما يؤكده د. حسام الخطيب أستاذ الأدب المقارن في جامعة دمشق بأن ملامح القصة السورية ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أورد في بحثه أن أشهر القاصّين في تلك الفترة د. عبدالسلام العُجيلي، حسيب كيّالي وسعيد حورانية.

كما يؤكد بعض مؤرخي الحركة الأدبية في سورية أن هذه الحركة بدأت بين الحربين العالميين الأولى والثانية، وبعد حركة تعريب الكتب في سورية، وبعد أن باشر محمد كرد علي تأسيس المجمع العلمي العربي، الذي كان يمثّلُ صوتَ اللغة العربية، تم تأسيس الجامعة السورية.

وقال «النابلسي»: ربما كان شكيب الجابري من السّبّاقين في كتابة القصة السورية؛ إذ كتب قصة «نهم» وبعدها «قصور الشام» لمحمد النّجار، ثم ظهر على الساحة مجموعتا «ربيع وخريف» لعلي الخلقي، وبعدها ظهر إنتاج شفيق جبري، وفؤاد الشايب، وبديع حقي، وغيرهم.. إضافة إلى ظهور بعض المجلات الأدبية التي تهتم بالقصّة، وعلى رأسها مجلة الصباح ثم مجلة النّقّاد؛ إذ انتعشت القصة السورية عن طريق هاتين المجلتين.

وأضاف: بعدها لعبت الصحف مثل «الآداب والطليعة والنقاد» دوراً مهمّاً في تطور القصة السورية؛ إذ كانت تعالج ما يعانيه المواطن السّوري في تلك الحقبة.

وفي فترة الخمسينيات تشكّلت رابطة الكتّاب السوريين، وأصدرت مجموعة مشتركة بعنوان «درب إلى القمة»، التي ألقت الضوء على الواقع الاجتماعي والفكري في تلك الفترة، وبخاصّة القضية الفلسطينية، وقد بكّرَ عبدالسلام العُجيلي بالكتابة عن النكبة الفلسطينية، وحذا حذوه أدباء سوريون، فمجّدوا النضال والكفاح في قصصهم، فأقبل عليها الجمهور بنهمٍ ورغبة. وفي الخمسينيات والسّتينيات كان تركيز الأدباء على الهموم الوطنية والقومية والاجتماعية، وفيها على سبيل المثال: هموم المرأة والعادات والتقاليد والزواج والإنجاب والشرف، والدعوة للالتزام الأخلاقي والتمسك بالقيم الخلقية الأسرية؛ فظهرت قصة «أنصاف مخلوقات» لاسكندر لوقا، وقد حارب في قصصه التحلل والفساد الخلقي والقيمي. كما ركّزت القصص آنذاك على الظروف الحياتية والفقر، والتسوُّل والكسب غير الشريف وغيرها..

كما كان للمرأة السورية دور في النهوض بالقصّة السورية؛ فقد كتبت وداد سكاكيني «مرايا الناس»، التي صوّرت فيها العادات والتقاليد السائدة في الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت مساهمة العُجيلي وفؤاد الشايب في تطور القصّة بشكلها الفني المعروف الأثر الكبير في نُموّ ورسوخ هذا الفنّ . وخلال ذلك رفع بعض الأدباء شعار «الفنّ للفنّ»، ولكن هناك حشدٌ كبير من الأدباء القاصين طرح شعاراً جديداً هو «الفنُّ في سبيل الحياة»، شدد فيه هؤلاء الأدباء على مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية؛ وبذلك حشدوا تطلعات الجيل الناهض في سبيل حياة العزة والكرامة، وصياغة أدب يخدم الإنسان وقضاياه، ويتطلع لمواكبة الحركة الأدبية العالمية.

واختتم «النابلسي»: أما في المجال الاجتماعي فقد صدر «اعترافات ناس طيبين» لفاضل السباعي و«الرسالة الأخيرة» لفؤاد حداد، وقصة «فنان» لإبراهيم كبُّة، وقصة «لحظة دهر» للقاص والمسرحي محمد الحفري، الذي نال عدة جوائز على كتاباته. ومن ثم ظهر قبل الألفين بقليل جنس أدبي في مجال القصة، هو «القصيرة جدًّا»، التي تهتم بتكثيف الأحداث واللغة والسرد. وما زال هذا النوع يشق طريقه بحياء في عالم الأدب القصصي في سورية. وفي هذه الفترة ظهر كتّاب الأدب السّاخر، ومنهم د. يوسف جاد عبدالحق في قصته أقبل الخريف.

9