في بعض الأحيان تكون الصورة الذهنيَّة عن الشخص الذي لم يسبق لك وأن سمعته يتحدَّث، ترتكز على رغبةٍ حقيقيةٍ للوصول له والتحاور معه لمعرفة أبعاد شخصيته عن قرب ومدى ارتباطها بالواقع الذي يعيشه، خصوصاً إذا ما كانت شخصيةً منتجةً، وقدَّمت عملاً مميزاً.
وفي عالم المستديرة لفت الأنظار مدرب أتليتكو مدريد الإسباني سيميوني، بعد أن حقق مع فريقه بطولة الدوري الإسباني، وقد نجحت قناة العربية في اصطياد المدرِّب سيميوني الذي يُعتبر العلامة البارزة على مستوى المدرِّبين في العالم بشكلٍ عامٍّ، وأوروبا على وجه الخصوص، فرغم أنَّ مسيرته كمدرِّبٍ لم تكن طويلةً في عالم التدريب، بل يُعتبر حديث عهدٍ بهذه المهنة، إلاَّ أنَّه استطاع أن يصنع مع نجوم فريقه إنجازاً كبيراً، رغم وجوده بين أفضل ناديين على مستوى العالم ريال مدريد وبرشلونة.
كنت انتظر حديث هذا المدرِّب بفارغ الصبر، لأتعرَّف على صاحب الإنجاز، وكيف استطاع أن يصل بفريقه الذي لم يعتد أن يتجاوز المركز الثالث في الدوري الإسباني طوال العشر مواسم الماضية ليحقق بطولة الدوري، لقد أصغيت لحديثه جيداً ومع كلِّ جوابٍ يزداد إعجابي بفكره، فرغم هدوئه إلاَّ أنَّ حديثه كان ينمُّ عن فكرٍ فنيٍّ بحتٍ، حيث شرح أسلوبه وطريقة تعامله مع كلِّ العناصر المتاحة له، فهم فريقه جيداً، ووظَّف نجومه وفق رؤيته الفنية ونجح، وكذلك فهم كيف يكسب أهمَّ منافسيه (برشلونة وريال مدريد)، وعرف طريقتهم في اصطياد النقاط، وفهم أنَّ اللياقة البدنية القوية من أهمِّ عناصر الكسب وعمل عليها، لقد صنع من نجومه وحوشاً داخل الملعب، أمرهم بالتركيز على كلِّ مباراةٍ وترك المستقبل لحينه، فهو يقول لهم” قبل أيَّ مباراةٍ لا تشغلوا أنفسكم بغير نقاط اليوم، واتركوا ما سيأتي لحينه، شجَّعهم ورفع من وتيرة حماسهم، أقنعهم بقدراتهم ومقدرتهم على التفوُّق والحسم، وحذَّرهم من الخوف والتوتر.
وبينما أنا منهمكٌ في متابعتي لحديث سيميوني، جاءت في مخيّلتي لقطةٌ من نهائي كأس أوروبا الذي خسره أمام ريال مدريد بعد هدف التعادل في آخر دقائق الشوط الثاني، كانت لقطةً معبّرةً جعلني أكمل الإطار الذهني الذي رسمته في مخيّلتي لهذا المدرِّب، وتيقَّنت أنَّ ما صنعه هذا الموسم لم يكن بمحض الصدفة أو لسوءٍ في الآخرين، تلك اللقطة التي انطلق فيها هذا الداهية الهادي لنجوم فريقه، يحثُّهم على الاستمرار دون أن يدخل اليأس لقلبه، جعلت العالم بأسره يضع سيميوني على قائمة نجوم العالم لهذا العام.
سيميوني تحدَّث بكلِّ تواضعٍ، وهو صاحب أفضل إنجازٍ في أفضل دوريات العالم، لم يتحدَّث عن نفسه كثيراً، لكن تحدَّث عن عمله الذي شاهده العالم، وفي عالمنا العربي والسعودي تحديداً يحدث العكس، فمع كلِّ إنجازٍ يتحقَّق تسقط قيمة الإنجاز أمام مَن كان طرفاً في تحقيقه!! وهم ينظرون للمنجز ويفخرون به ويتناسون أيَّ شيءٍ آخر.
عندما سُئِل سيميوني عن منتخب بلاده وإمكانية أن يكون هو المرشح لتدريب منتخب الأرجنتين، قال: ليس بعد، فالمنتخب يحتاج إلى مدرِّبٍ مخضرمٍ، فهذا منتخب وطنٍ يحمل كلَّ آمال الشعب الأرجنتيني، وتدريبه في سنٍّ مبكرةٍ يعني مخاطرةً كبيرةً قد لا تحمد عقباها، فإن فشلت قد أخسر الكثير، وهذا ما لا أتمنّاه.
لقد تطرَّق سيميوني في حديثه إلى جزئياتٍ مهمَّةٍ، يجب أن تتوفَّر في مَن يريد أن يصبح مدرِّباً، حتى ولو لم يقلها بشكلٍ مباشرٍ كان من أهمّها العدل، والتعامل مع الهدف المراد تحقيقه بواقعيةٍ، مع تغليب المصلحة العامة للفريق وبأنَّ مصلحة الفريق هي الأهم، لا يعني له مَن يبقى أو مَن ينتقل، حتى وإن كانت قيمته الفنية عاليةً، ينظر للأمام ويبحث عن البديل الذي يسدُّ النقص، ويكون في مستوى من رحل.
فلسفة سيميوني التدريبية كانت مختلفة قادته لأن يكون حديث العالم ، وهذا هو سرُّ البحث عن كل مَن يحقّق منجزاً للتحاور معه؛ حتى تكتمل الصورة الذهنية المرتبطة بعمله، وفي تصوّري هذا المدرِّب سيكون من أعظم مدربي العالم، أفعاله وأقواله متفقان، لهذا أتمنى أن يستفيد مدربونا السعوديون من حديثه، خصوصاً وأنَّه مدرِّبٌ مازال في بداياته.
ودمتم بخير،،،
نقلا عن اليوم